Politics

الجيش اللبناني إمّا مفوضاً بالترسيم.. أو فليسحبوا تفويضهم

إستبشر اللبنانيون خيرًا بإنطلاق المفاوضات الحدودية البحرية غير المباشرة مع العدو الإسرائيلي بوساطة أميركية وبرعاية الأمم المتحدة، كون المهمة سُلّمت لجيشهم الوطني الذي يثقون به ويعتبرونه المؤسسة الأكثر قدرة على استعادة الحقوق الوطنية التي قد تساهم في انتشال لبنان من أزمته المالية الخانقة.

خاض الوفد اللبناني الجولات الأربع بكفاءة عالية برغم النيران الصديقة التي تعرّض لها قبل انطلاق مهمته وبرغم تجريده من السلاح القانوني الأهم وهو تعديل المرسوم رقم 6433 تاريخ 1/10/2011 الذي يحدّد النقطة (23) كنقطة حدود ثلاثية في حين أن الوفد اللبناني انطلق من خط يعتمد النقطة (29) أي بزيادة 1430 كلم2 عن الخط اللبناني المعلن بموجب المرسوم المذكور وبزيادة 2290 كلم2 عن الخط المعلن من قبل العدو الإسرائيلي.

فوجىء وفد العدو الإسرائيلي بصلابة الوفد اللبناني ودفاعه المحكم المستند كلّيًا إلى القانون الدولي، ولما لم يجد نفسه قادرًا على مواجهته بالقانون شنّ حملة إعلامية شعواء بقصد تشويه صورة لبنان وتقليب المجتمع الدولي عليه وبصورة خاصة الوسيط الأميركي.

لم تُعقد الجولة الخامسة التي كانت مقرّرة بتاريخ 2/12/2020 واستعيض عنها بجولة قام بها الوسيط الأميركي على بعض القيادات اللبنانية عرض خلالها العودة إلى التفاوض حول مساحة 860 كلم2 لكن الجانب اللبناني أكّد رغبته بمتابعة المفاوضات على أساس القانون الدولي دون حصرها بمساحة معيّنة.

في ظل عدم تحديد موعد جديد للجولة الخامسة، اعتُبرت المفاوضات بحكم المعلّقة، فاستفاد العدو الإسرائيلي من ذلك لإعادة تنظيم صفوفه من خلال تحصين فريقه المفاوض بعد أن فهم جيّدًا موقف الوفد اللبناني، وأيضاَ من خلال متابعة التحريض الدولي على لبنان.

نجح العدو الإسرائيلي في ذلك فأقدم السيد فريدريك هوف بنشر مقالٍ له بتاريخ 4/12/2020 على موقع ” نيوزلاين” شرح فيه بالتفصيل كيف وضع خطه في العام 2012 برضى الجانبين اللبناني والإسرائيلي وذكر إسميًا اللبنانيين الذين عملوا معه في تلك الفترة. طبعًا لم يكن هذا المقال بهذا التوقيت من باب الصدفة بل هدف منه تذكير اللبنانيين بأنهم سبق ووافقوا على المقترح الأميركي، وبالتالي دعم المزاعم الإسرائيلية القائلة بأن اللبنانيين غير ثابتين على رأي.

بعد فريدريك هوف، دخل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على الخط بتاريخ 22/12/2020 فدعا الجانبين للعودة إلى التفاوض على أساس الإدعاءات السابقة التي أودعوها الأمم المتّحدة، أي بمعنى آخر العودة إلى التفاوض ضمن مساحة 860 كلم2.

وجدت قيادة الجيش أن العدو الإسرائيلي يعتمد المماطلة والمراوغة فاقترحت تعديل المرسوم 6433 لتصبح النقطة الثلاثية هي النقطة (29) بدلاً من النقطة (23) وإيداع المرسوم الأمم المتّحدة قبل بدء العدو الإسرائيلي استخراج النفط والغاز من حقل كاريش حيث من المتوقع بدء الإستخراج منه اعتبارًا من شهر حزيران/ يونيو المقبل، وبالتالي إجباره للعودة إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط عاملي الوقت والالتزامات المادية نظرًا لارتباطه ببرنامج زمني مع شركتي شفرون ونوبل انيرجي، الأمر الذي قد يجبره على التنازل ويساعد الوفد اللبناني لتحصيل أقصى الممكن من الحقوق اللبنانية.

انتظرنا الردّ من العدو الإسرائيلي لكن للأسف برزت هجمة سياسية ـ إعلامية لبنانية، في سياق حملة بدأت بتاريخ 8/1/2020، يبدو أن مطلقيها أخطأوا الهدف فبدل التصويب على العدو الإسرائيلي وجّهوا نيرانهم باتجاه الجيش اللبناني فشكّكوا علنًا بالخط اللبناني الجديد واعتبروه خطّا إيرانيًا واتهموا الجيش اللبناني باختلاقه لخلق مزارع شبعا بحرية ولدفع العدو الإسرائيلي لإيصال خطّه إلى قبالة صيدا.

ذنب قيادة الجيش أنها تحلّت بالجرأة فانطلقت من الخط الجديد (النقطة 29) لقناعتها بقانونية هذا الخط برغم معرفتها المسبقة بأن المهمة ستكون أصعب بسبب الأخطاء السابقة التي ارتكبها عن قصد أو غير قصد بعض الذين تعاقبوا على هذا الملف منذ العام 2006.

فالخط الذي انطلق منه الوفد اللبناني ليس جديدًا بل هو نتيجة آراء ودراسات لبنانية وأجنبية وضعت بتصرف السلطات اللبنانية منذ العام 2011 ولكنها لم تأخذ بها لأسبابٍ ما تزال مجهولة حتى الآن ومطلوب من هذه السلطات شرحها للرأي العام اللبناني. أذكر من هذه الاراء والدراسات على سبيل المثال لا الحصر:

  • مداخلات خلال جلسات لجنة الأشغال النيابية أثناء التحضير لإعداد القانون رقم 163 والمرسوم رقم 6433 قدّمها كل من وزير التربية الحالي القاضي طارق المجذوب (ممثل مجلس شورى الدولة حينها)، السفير جوني ابراهيم (ممثل وزارة الخارجية والمغتربين)، بالإضافة إلى محاضرة قدّمها الدكتور نبيل خليفة وجميعها تنادي بحق لبنان جنوب النقطة (23).
  • دراسة قدمها مكتب الهيدروغرافيا البريطاني UKHO بتاريخ 17/8/2011 قبل يوم من إصدار القانون  رقم 163 وقبل أسبوع من نشره في الجريدة الرسمية وقبل شهرين ونصف من إصدار المرسوم رقم 6433 يقترح فيها خيارين جنوب النقطة 23. (هل تم إخفاؤها عن النواب أم أنهم علموا بها وأهملوها؟).
  • بحث أركان أعده العقيد الركن مازن بصبوص في العام 2013 عن الحدود البحرية بيّن فيه حق لبنان بمساحة 1430 كلمجنوب النقطة 23).
  • محاضرة ألقاها السيد نجيب مسيحي خلال مؤتمر أقامه مجلس النواب بتاريخي 18 و19 /7/2019 أكد فيها على حق لبنان بمساحات إضافية جنوب النقطة 23.

كذلك فإن محاولات قيادة الجيش لتصحيح الخطأ ليست جديدة، فقد أرسلت مجموعة كتب إلى رئاسة الحكومة اللبنانية تقترح عليها تشكيل هيئة وطنية تعنى بموضوع الحدود البحرية وتلفت نظرها إلى وجود طرق أخرى تعتمد الحل المنصف وتعطي لبنان الحق بمساحات إضافية جنوب النقطة (23) دون الحصول على جواب سلبًا كان أم إيجابًا. أكتفي بذكر ستة من هذه الكتب:

  • كتاب رقم 1993 / غ ع /و تاريخ 18-6-2013: على أثر متابعة مؤتمر في لندن حول الحدود البحرية. تم اقتراح إنشاء هيئة وطنية لاجراء دراسات واعتماد الحل المنصف بالاستفادة من الطرق التي اعتُمدت في دول أخرى (كان جواب الحكومة أن هذا الأمر خارج صلاحياتها كونها حكومة تصريف أعمال).
  • كتاب رقم 3488/غ ع /و تاريخ 3-9-2014: تأكيد على الكتاب السابق (كان جواب الحكومة أن لا ضرورة لإنشاء هيئة وطنية).
  • كتاب رقم 1801/ غ ع /و تاريخ 12-4-2019: شرح أنه يمكن للبنان تعيين حدوده وفقًا للقوانين والأعراف الدولية بشكل يعطيه الحق بمساحات إضافية جنوب الخط المعلن بموجب المرسوم 6433 بحيث يقع جزء من حقل كاريش ضمن المياه اللبنانية. وطلب إثارة الموضوع في المحافل الدولية لمنع إسرائيل من متابعة العمل في حقل كاريش (بدأت إسرائيل الحفر في حقل كاريش بتاريخ 27 شباط/ فبراير 2020).
  • كتاب رقم 10884/غ ع/و تاريخ 7/11/2019: اقتراح تشكيل لجنة وطنية للبدء بالتحضير للمفاوضات المستقبلية خاصة أن الوقت أصبح داهمًا أمامنا في ظل قيام العدو الإسرائيلي بتطوير حقل كاريش.
  • كتاب رقم 5918/ غ ع /و تاريخ 27/12/2019: تم فيه التأكيد على حق لبنان بمساحة 1430 كلم2 إضافية وأرفق الكتاب بملف كامل أعدته مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني.
  • كتاب رقم 780 / غ ع /و تاريخ 9-3-2020: تأكيد على الكتاب رقم 5918 واقتراح التواصل مع المكتب البريطاني للحصول على المشورة نظراً لتوافر معطيات جديدة لمصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني.

إن مهمة التفاوض هي مهمة وطنية بامتياز، والمحافظة على حقوقنا واجب وطني كونها ترتبط بمستقبل أولادنا وأحفادنا والتفريط بها خيانة وطنية. فأين المصلحة الوطنية باطلاق النار على الوفد اللبناني المفاوض وفي توقيت جاء استتباعًا لمواقف فريدريك هوف ومايك بومبيو؟ هل تعلمون أنكم بهجماتكم هذه تفتحون ثغرات في الجسم الدفاعي اللبناني قد يستغلّها العدو الإسرائيلي للتسلل منها وتطويق الفريق اللبناني؟

تذكّروا أنكم لاعبون ولستم متفرّجين. البارحة رأيناكم تتصارعون على الصلاحيات فما بالكم اليوم تتراجعون أثناء تحمّل المسؤوليات؟ المطلوب منكم التحلّي بالروح الوطنية العالية واتخاذ القرارات الجريئة؟ إذا كنتم غير مقتنعين بخط الجيش اللبناني قولوا ذلك صراحة، إتخذوا القرار الذي تريدونه، وزوّدوا الفريق المفاوض بقراراتكم.

أما إذا كنتم مقتنعين، فعليكم تحصين موقف الوفد المفاوض بتعديل المرسوم 6433. لا يمكنكم أن تطلبوا منه التفاوض على النقطة 29 والمرسوم رقم 6433 يحدّد النقطة 23. عدّلوا هذا المرسوم فورًا قبل أن يبدأ العدو الإسرائيلي بالاستخراج من حقل كاريش.

المطلوب تجنّب التجاذبات السياسية والمطلوب محاذرة الوقوع في الأزمة لا المساهمة في بلوغها أو الإنزلاق إليها.. التخاذل في هذا الموضوع جريمة بحق الوطن، بادروا فالتاريخ لن يرحم المتخاذلين، وإلا فلتبادر السلطة السياسية إلى سحب تفويضها للقيادة العسكرية.

image_pdfimage_print
Print Friendly, PDF & Email