التنقيب عن النفط برّاً: احتمالات واعدة بكلفة أقل
بحر لبنان وبرّه بانتظار الإفراج عنها.. مع ذلك يحضر الملف النفطي بصمت أحياناً وبصخب أحياناً أخرى، وفي كلتا الحالتين يبقى عالقاً في الدهاليز السياسية…
قبل إعلان رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري استقالته، كانت الحكومة على أبواب إقرار أول عقد تلزيم في البلوكين 4 و 9 وذلك بعد إقفال دورة التراخيص الأولى في 12 تشرين الأول على عرضين مقدمين من ائتلاف يضمّ ثلاث شركات إيني ونوفاتك وتوتال(. وكان من المفترض أن يبتّ مجلس الوزراء هذا الملف ويعطي وزارة الطاقة موافقته لتتمكن من التفاوض مع الشركات. علماً أنّ المفاوضات مع تحالف الشركات المشاركة في دورة التراخيص الأولى للتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية اللبنانية، تبدأ من بعد غد الإثنين.
غير أنّ وزير الطاقة لم ينتظر تكليف الحكومة فوقّع دعوة الشركات المشاركة في دورة التراخيص الأولى معلناً ذلك بخطورة التبعات لتي تنجم من عدم المضيّ قدماً في مسار الآلية المقرّرة لاستكشاف الثروة النفطية. رغم خطوة الوزير، التي يراها كثيرون خطوة متسرّعة، يبدو أنّ تحقيق حلم لبنان النفطي قد أرجئ في الوقت الراهن. صحيح أنّ الحريري قد تريّث في ما خصّ الاستقالة، إلّا أنّ الأوضاع لا تنبئ بانعقاد جلسة لمجلس الوزراء قريباً لحسم الملفات الكبيرة وعقد الاتفاقات المصيرية.
في ظلّ هذا الوضع هل يُعاد إلى الواجهة التنقيب عن النفط برّاً؟!
أبدى لبنان جاهزية تامّة لبتّ موضوع استخراج النفط في البرّ، وذلك من خال المسح الذي جرى على امتداد 6000 كيلومتر مربع منذ أكثر من ثلاثة أعوام. المعلومات الجيولوجية التي أصدرتها شركة «نيوس » تسمح بتقييم مخزون النفط والغاز في البرّ اللبناني بشكل مفصّل. وقد أتاح المسح الثلاثي الأبعاد الحصول على مجموعة بيانات جيوفيزيائية لباطن الأرض التي يمكن للشركات لعالمية أن تحلّلها بغية تحديد أماكن وجود النفط والغاز وتطويرهما واستخراجهما. ومع ذلك لم تبتعد المناكفات السياسية من هذا لملف، فيما يستمر تخوف الخبراء من تكرار تجربة المماطلة المتمادية التي رافقت إقرار المرسومين المتعلقين باستخراج النفط في البحر وما رتّبه ذلك من ضمور في هذا الملف وانكفاء لعدد كبير من الشركات الدولية التي لم تعد مهتمة بالغوص في الأعماق اللبنانية، وما تبعه من تسرع لناحية إجراء دورة تراخيص واحدة (فيما أجرت قبرص ثلاث دورات تراخيص ولم تحسم هذا الموضوع الدقيق اقتصادياً وسياسياً).
التنقيب البرّي أقل كلفة
بحسب الخبير النفطي والاقتصادي رودي بارودي، «فإنّ تحاليل البيانات قد أظهرت تكاملاً في النظام البترولي من الناحية الجيولوجية فلماذا لا يباشر لبنان بإجراءات التنقيب البرّي؟ عمليات حفر الآبار النفطية التي حصلت في أربعينيات القرن الماضي ثبتت وجود مكامن نفطية، إضافة إلى الاستكشافات التي تمت في سوريا وفلسطين والتي يشكل لبنان استمراراً لها، كلها دلائل تؤكد وجود مكامن نفطية. إلى ذلك، كلفة التنقيب والتطوير في البرّ، أقلّ من خُمس (5/1) الكلفة بحراً، ما يشكل عنصر جذب لشركات متوسطة الحجم. من هنا لا بدّ من عدم المماطلة في هذا الملف الحيوي لتجنب تكرار تجربة البحر. فالاهتمام بالبرّي يؤدي إلى زيادة التنافس بين الشركات، ما يُعطي الدولة قدرة تفاوضية أعلى تؤدي إلى تعظيم المنفعة، فضلاً عن سهولة مشاركتها في الأنشطة البترولية برّاً بسبب الكلفة المتدنية مقارنة مع البحر».
تاريخ التنقيب البرّي
ليس التنقيب عن البرّ في لبنان أمراً مستجدّاً. بل إنّ التوقعات عن احتمال وجوده تعود إلى منتصف الأربعينيات، وقد بد أت حينها محاولات حفر بئر تجريبية في المنحدر الغربي في جبل تربل شمال مدينة طرابلس. آنذاك اكتشفت الشركة المنقّبة موادّ بترولية ثم طمرت البئر من دون أن تُعرف الأسباب. بين الأعوام 1948 و 1966 تم حفر سبع آبار غالبيتها في منطقة البقاع قبل أن يقفل هذا الملف بسبب الأوضاع السياسية من جهة، وعدم توفر إمكانات لإجراء الدراسات اللازمة. ولكن، رغم الاكتشافات، والإثباتات لا يزال لبنان غائباً عن الساحة النفطية، فيما يُفترض أن يكون معنياً بكل ما يحصل من حوله.
عن الإطار القانوني، تقول المحامية والمتخصصة في قطاع النفط والغاز كرستينا أبي حيدر: »هنالك مشروع قانون للتنقيب البري وهو موجود لدى اللجان المختصة لكن إن لم يُقرّف في وقت قريب فلماذا لا تُعتمد القوانين المرعية الإجراء التي، بالرغم من قدمها، من الممكن أن تسد الفراغ إن أجريت التعديات اللازمة. القانون الجديد ينبغي أن يحتوي على نقاط قانونية هامّة إذا ما أردنا مواكبة التطور الاقتصادي والاجتماعي لا سيما في ما يتعلق بتنظيم عمل الشركات، ومسألة الإشغال الموقت للعقارات أثناء عملية الاستكشاف البرّي، من ثم الاستملاك إذا تم اكتشاف حقل نفطي… كل هذه ا أ لمور تحتاج إلى مقاربة استباقية وسريعة. فالملكية الفردية مصونة في الدستور اللبناني فا يمكن نزعها إلا بموجب مرسوم منفعة عامّة ولقاء تعويض عادل. إلى ذلك، قد تظهر عقبات إضافية هي المحافظة على الأثار وعلى المواقع الطبيعية والمياه الجوفية والثروات الطبيعية الأخرى، كل هذه التحدّيات قد تعوق عمليات التنقيب أو تدمّر التراث الوطني لذا يجب سنّ قوانين وقائية وردعية «. وتتابع أبي حيدر «من غير الممكن الحديث عن النفط البرّي دون ذكر دور البلديات كسلطة محلية منتخبة وعلى تماسّ مباشر مع المشاكل اليومية، لذلك من المفترض إيجاد منظومة تشريعية ترعاها لكونها المعني مباشرة بإدارة الثروات الطبيعية. ومن الضروري أن توضع القوانين الواضحة قبل البدء بأيّ عملية تنقيب، مع دراسة التجارب السلبية والإيجابية في الدول الأخرى لنعرف كيف نستفيد منها ولن أخذ مثلاً الأثر البيئي الذي تؤدي في تطبيقه البلديات دوراً أساسياً. للأسف، حتى الساعة لم يُفتح النقاش في لبنان على نحو واسع وعميق حول دور البلديات، سواء على صعيد الآثار البيئية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو حتى إيجاد فرص عمل جديدة، و إيجاد مدخول جديد للبلديات ولاتحادات البلديات . «
وتضيف « أنّ التجارب العالمية تشجع الشركات الصغرى والمتوسطة في عملية التنقيب البرّي، ومن المفترض أن يحذو لبنان حذو الدول الأخرى التي تمتاز بخبرات عالية في إدارة مجال النفط والغاز البرّي، و ألا يسمح للشركات الكبرى بأن تنفرد بهذا القطاع وتبتلعه، ولا يمكن لذلك أن يتم إلا من خلال مراقبة علمية ودقيقة لعمل الشركات المنقّبة«. منذ أكثر من أربعة أعوام يزعم المسؤولون عن هذا القطاع أنّ عملية التنقيب عن النفط البرّي يمكن أن تبدأ في وقت قريب، بما أنّ العوائق التي تؤخر العمل بحراً غير موجودة. لكن يبدو أنّ هذا الوقت القريب لن يحين حتى من أجل وضع منهجية واضحة لطريقة العمل. فهل كل» العراقيل المفتعلة « أحياناً والظروف المستجدة أحياناً أخرى إشارة إلى أفضلية أن تبقى هذه الثروة مدفونة لئلا تتسبب في إغراقنا في المزيد من الفساد والمحاصصة؟