“يحق للبنان مراجعة حدود منطقته البحرية”… بارودي: على فريقَي التفاوض الانطلاق من نقاط جديدة
شهدت الجولة الاخيرة من المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية الجنوبية تباينات في آراء الوفود المشاركة، حيث طالب الوفد الأميركي بان يكون التفاوض محصورا فقط بين الخط الإسرائيلي والخط اللبناني المودعَين لدى الأمم المتحدة، أي ضمن المساحة البالغة 860 كيلومترا مربعا، وهو ما يرفضه لبنان ويعتبره معارضا لمبدأ التفاوض من دون شروط مسبقة.
وبينما تنشغل السلطات السياسية اللبنانية بخلافاتها، وهذه المرة حول ما إذا كان ينبغي للبنان تزويد الأمم المتحدة بإحداثيات جديدة تحدد المنطقة الاقتصادية الخالصة الخارجية للبلاد EEZ، تستمر اسرائيل بالعمل على تطوير حقولها النفطية البحرية. وهنا سؤالان يطرحهما المراقبون: هل يملك لبنان الحق في مراجعة حدود منطقته الاقـتـصـاديـة الخالـصـة وتحـسـيـنها وبالتالي تعديل لوائح إحداثياته وتقديمها الى الامم المتحدة؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل ينبغي للبنان أن يقدم على ذلك في ظل الظروف الحالية؟
من المعروف ان لهذه المسألة أهمية كبيرة، ليس فقط لأنها تتعلق مباشرة بمحادثات الحدود البحرية اللبنانية مع إسرائيل، ولكن أيضًا لأنها تحدد التاريخ الذي سيتمكن فيه لبنان من بدء الحصول على فوائد ملموسة من أي هيدروكربونات موجودة تحت البحر داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة، خصوصا مع الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمر به. وبالفعل، يحق لبنان مراجعة حدود منطقته الاقـتـصـاديـة الخالـصـة وتحـسـيـنها وبالتالي تعديل لوائح إحداثياتها لدى الأمم المتحدة، وهذا ليس منصوصًا عليه فقط في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS )، ولكنه أيضًا محمي بموجب القانون الدولي العرفي(CIL ) من خلال سوابق لا حصر لها لدول تسعى الى تحديد مطالبها البحرية والدفاع عنها، ولأسباب ليس أقلها أن التقدم التكنولوجي المستمر يسمح برسم خرائط دقيقة بشكل متزاي، وأيضا المرسوم 6433 الصادر في العام 2011، والذي يرتكز عليه لبنان لإخبار الأمم المتحدة بتحديث حدوده مع اسرائيل، نص صراحة على إمكانية إجراء تحديثات مستقبلية. فالمادة 3 من المرسوم لا تترك مجالاً للتفسير على الإطلاق، حيث لحظت إمكانية مراجعة حدود الـمنطقة الاقـتـصـاديـة الخالـصـة وتحـسـيـنها وبالتالي تعديل لوائح إحداثياتها عند توافر بيانات أكثر دقة ووفقا للحاجـة فـي ضـوء الـمفاوضات مع دول الجوار الـمعنية. علاوة على ذلك، وعندما قدمت بعثة لبنان لدى الأمم المتحدة المطالبات المسموح بها بموجب المرسوم 6433، تضمنت رسالتها المصاحبة الحاجة لإجراء مسح تفصيلي، باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي، للشاطئ الحدودي الجنوبي، بما في ذلك جميع الجزر والعقد، بهدف تحديث الخرائط الملاحية وخط الأساس وفقًا لذلك في المستقبل. وبالفعل، أجري هذا المسح وظهرت الحاجة الى تقديم احداثيات جديدة اكثر دقة.
في هذا السياق، يشير الخبير النفطي الدولي رودي بارودي الى انه “بينما يسعى المسؤولون الإسرائيليون الى التشكيك في حق لبنان في تحديث مطالبته، فإن اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة ببلدهم والموقعة مع قبرص في تشرين الاول 2010، تستند إلى الإحداثيات الإسرائيلية التي نعرف الآن أنها غير صحيحة، وبالتالي سيتم رفضها من قِبل أي محكمة او تحكيم، كما تعترف صراحةً بحقيقة أنه بموجب CIL، فإن هذه الإحداثيات عرضة للتغيير. وتنص المادة 1 (هـ) من هذا الاتفاق على انه ومع مراعاة مبادئ القانون الدولي العرفي المتعلقة بتعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدول، يمكن مراجعة و/ أو تعديل الإحداثيات الجغرافية للنقطتين 1 أو 12 على النحو الآتي: في ضوء اتفاق مستقبلي بشأن ترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة من قِبل الدول الثلاث المعنية في ما يتعلق بكل من النقاط المذكورة. اضافة إلى ذلك، وفي تقديم لاحق أحادي الجانب إلى الأمم المتحدة، لم تشر بعثة إسرائيل إلى الهيئة العالمية إلى الأحكام ذات الصلة من المادة 1 (هـ) فقط، بل قامت أيضًا بإعادة اللغة نفسها، حرفياً تقريبًا. حتى أن الطلب كرر ذكر “الدول الثلاث المعنية”، والتي في سياقها لا يمكن إلا أن تشير إلى لبنان كدولة ثالثة. بالتالي، يؤكد بارودي “حق لبنان في تقديم إحداثيات جديدة”. ويقول: “من الناحية الواقعية، فإن أي فريق او طرف يجادل بخلاف ذلك فهو اما يعارض المصالح الفضلى للبنان الذي يحتاج إلى تطوير هذا المورد، واللبنانيين الذين يستحقون جني الثمار الاقتصادية التي ستنتج من هذا المورد، والجيش اللبناني الذي يقوم بجهد كبير في المحافظة على حقوق لبنان؛ واما يجهل الحقائق والقواعد؛ أو يسعى وراء بعض المزايا السياسية والمالية أو الشخصية او الحزبية. اذاً يحتاج الفريقان الى الانطلاق من #نقاط جديدة لكي تثمر المفاوضات نتائج إيجابية. في هذا الاطار فان لبنان سلم الأمم المتحدة في 14 تموز 2010 احداثيات تبدأ على مسافة 61.5 متراً من رأس الناقورة. اما النقطة الإسرائيلية الاحادية الجانب كما قُدمت إلى الأمم المتحدة في 12 تموز 2011 فتبدأ أيضًا في منطقة خاطئة قبالة الشاطئ بمسافة 37.7 مترًا من نقطة رأس الناقورة، ما ينبغي تصحيحهما كما اشرنا سابقا”.
عام 2011، وبعد أشهر قليلة من الاتفاق الإسرائيلي – القبرصي على ترسيم حدودهما وآخر طلب قدمه لبنان إلى الأمم المتحدة، تلقت الحكومة اللبنانية تقارير الخبراء والمشورة ومخططات من مكتب المملكة المتحدة الهيدروغرافي والذي يعتبر منذ فترة طويلة المعيار الذهبي لرسم الخرائط البحرية للمنطقة. ما وجده الخبراء هو أن كلاً من لبنان وإسرائيل استخدما إحداثيات خاطئة كنقطة انطلاق لحدودهما البحرية. فبينما يجب أن تكون هذه النقاط على الساحل، ارتكز البلدان على نقاط تبعد عشرات الأمتار عن الشاطئ. قد لا يبدو هذا كثيرًا، ولكن عندما يصل فيه الخط المرسوم إلى البحر من نقطة البداية في غير محله إلى ما ينبغي أن يكون المفترق الثلاثي – حيث تلتقي المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص وإسرائيل ولبنان – يصل الخطأ إلى أميال بحرية عدة.
تعليقا على هذا الموضوع يعتبر بارودي انه “بحكم الأمر الواقع، استند كل من لبنان وإسرائيل في مطالباتهما البحرية السابقة إلى إحداثيات خاطئة، مما يجعل كل ما نتج عنها عفا عليه الزمن، اي ما يسميه الفرنسيون CADUC” كادوك” – أي لاغ وباطل بالنسبة لكليهما. ولا يمنح هذا فقط الحق في تحديث مطالباتهما أمام الأمم المتحدة، ولكنه يمنح أيضًا التزامًا بالقيام بذلك بناءً على المصلحة الوطنية لكل جانب. وإلى ذلك، تُظهر التجارب أنه، لا سيما مع وجود مثل هذه الأدلة على أن ادعاءات كل منهما كانت معيبة بشكل قاتل، إذا فشلت المحادثات الحالية وذهب البلدان إلى المحكمة أو التحكيم بشأن هذه القضية، فإن أول ما يُطلب منهما هو استبدالهما الخاطئ للخرائط الموجودة في حوزتهما من خلال إجراء مسوحات وتحليلات مفصلة من أجل تحديد نقاط الخلاف بدقة”. وبالمعنى التقني إذاً يؤكد بارودي انه “نعم، يجب على لبنان أن يتحرك بسرعة لتحديث المطالبات البحرية التي سبق أن قدمها الى الأمم المتحدة. لكن هناك اعتبارات أخرى يحتاج أيضًا إلى اخذها في الاعتبار. على سبيل المثال، في حين أن لبنان دولة ذات سيادة، لا يمكنه أن يتجاهل كليا مواقف الجهات الخارجية. عندما تتعارض هذه المواقف مع رغباتها وحاجاتها، يجب أن يزن الإيجابيات والسلبيات ويقرر وفقًا لذلك. في هذه الحالة، سعى المسؤولون الإسرائيليون إلى ثني لبنان عن تحديث مزاعمه أو تأخير استئناف المحادثات المذكورة أعلاه بطريقة او بأخرى، مما أثار احتمال أن يؤدي ذلك إلى إعاقة التقدم، وتفاقم التوترات، وإجبار لبنان على الانتظار فترة أطول لأي تطوير في حقوله النفطية والغازية البحرية.
أما بالنسبة لما يدعو لبنان الى التنازل عن بعض حقوقه من أجل الاسراع في التوصل الى إتفاق يسمح له ببدء جني بعض الإيرادات من ثرواته، يرفض بارودي بشكل قاطع هذا الخيار، مؤكدا ان “المنطقة الحدودية تحتوي على بعض من أكثر المساحات البحرية الواعدة في لبنان، وعلى أي حال، ليس هناك ما يضمن أن التخلي عنها سيؤدي إلى تحقيق اختراق ديبلوماسي، وحتى لو حدث ذلك، فإن الاستثمار الخارجي المطلوب لتنشيط صناعة الطاقة يعتمد على مجموعة أخرى كاملة من المتطلبات الأساسية، ليس أقلها الإصلاحات التي لم يتمكن أحد من تحقيقها”.
بالإضافة إلى تحليل عام 2011، أجرى الجيش اللبناني دراسات مفصلة عززت موقف لبنان، وبالتوازي مع الإحداثيات المودعة حديثًا، قد تُسرع جودة عمل الجيش عملية التفاوض من خلال إثبات أن الجانب اللبناني لن يهدد، ولن يتعرض للخداع. فيما لا أحد يتوقع أن تتخلى واشنطن عن علاقتها الوثيقة بإسرائيل، لكن نهج الجيش اللبناني في المفاوضات يشجع الأميركيين على أن يكونوا منصفين قدر الإمكان.